من روائع أوقاف المسلمين تزويج الشباب والفتيات
تختلف
حاجات الناس باختلاف الأزمان والبلدان، ولحفظ كرامة الإنسان، ومساعدته في
تلبية حاجاته، وحفظًا للمجتمعات من الآفات، أوقفت العديد من الأوقاف في
العهود الإسلامية، والتي حبست أصولها ليصرف من ريعها على أهل تلك
الحاجات، تعددت وتنوعت وتنافس أهل الجود والغنى لإقامة الجديد من الأوقاف،
والتي ذكرها بعض الرحالة كابن جبير وابن بطوطة وغيرهم في كتبهم؛ بعضًا منها
تقديرًا لواقفها، وبعضًا منها لطرافتها وندرتها، وأخرى لما بلغ في النظام
الوقفي من إتقان حتى إن بعض تلك الأوقاف قدمت خدماتها لأكثر من 1000 سنة.
ولمساعدة
الشبان والفتيات على تحصين أنفسهم بالزواج، أوقفت أوقاف ليصرف من ريعها
لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب، ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن
نفقات الزواج وتقديم المهور؛ فإدخال السعادة على زوجين وتكوين أسرة
مسلمة محصنة لتكون نواة صالحة في المجتمع، ذلك من مقاصد الشريعة والتي تحفظ
فيها العرض والنسل، وفيها الأجر العظيم من رب العالمين.
وهذه
المشاريع الوقفية حققت بفضل الله تعالى الطهر والعفاف والأمن والصحة
للمجتمع، وساعدت الشاب المقبل على الزواج ماليًّا، وساهمت في تخفيف
العنوسة، وما يتبعها من أضرار.
وقد
رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج، وحثَّ عليه، وأمر به عند
القدرة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : "يا معشر الشباب، من استطاع منكم
الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه
بالصوم، فإنه له وِجَاء (أي: وقاية وحماية)" (1) والباءة هي القدرة على
تحمل واجبات الزواج، وفي خلافة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يزوج الشباب من بيت مال المسلمين. والزواج
سنة من سنن الأنبياء والصالحين، فقد كان لمعظم الأنبياء والصالحين زوجات،
وقد عنَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ترك الزواج وهو قادر عليه،
ونبه إلى أن هذا مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال:
جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة
النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخْبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين
نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم
الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله
إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء،
فمن رغب عن سنتي فليس مني" (2).
جاء في كتاب (الدارس في تاريخ المدارس): "من الأوقاف التي وجدت سنة 878هـ وقف تزويج الأيامى، يعطى كل من تزوج من فقراء الحنابلة" (3).
وبفاس
قصر يحمل اسم (دار الشيوخ)، عند زقاق رياض حجا بين الصاغة ورحبة قيس،
وكانت معدة لتعريس المكفوفين الذين لا سكن لهم، فكلما اقترن كفيف بنظيرته
أقاما بهذه الدار مراسيم الزفاف (4).
ومن
المؤسسات الإحسانية الأخرى بالمدينة ذاتها، أربعة ديار وقفية تتبدى من دار
بدرب السعود في حي الجزيرة فيسكن بها الضعفة والمساكين، وكانت من أكبر
ديار فاس ضخامة وسعة رحاب ووفرة مياه (5).
مع
ثلاثة ديار برسم تعريس الضعفاء والمتوسطين الذين لا يتوفرون على سكن يتسع
لهذه المناسبة، وقد جهزت كل واحدة منها بالفرش والأثاث اللائقة بوليمة
التزويج، كما أن مواقعها توزعت بين الأقسام القديمة لمدينة فاس، فواحدة منها بالعودة، وأخرى بالدرب الطويل والثالثة في حي العيون (6) وكانت الدار الأخيرة خاصة بتعريس الأشراف المقلين، وهي ذات مرافق ومنظر وبهاء (7).
وللأيتام
أوقاف لرعايتهم وتزويجهم، هذا ما ذكره ابن جبير في رحلته خلال وصفه لمدينة
دمشق قال: "وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير، يأخذ
منه المعلم لهم، وهذا أيضًا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد" (8).
بل
وأوقفت أوقاف لإعارة الحليِّ في الأعراس؛ وهو وقف لإعارة الحُلي والزينة
في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم،
ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه، وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه
بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تجلَّى في حُلَّة رائقة، حتى يكتمل الشعور
بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وأوقفت
أوقاف لإيواء الزوجات الغاضبات؛ وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت يعدُّ فيه
الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها
وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من
جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
فما أروع هذه الأوقاف! وما أحوجنا في زماننا الذي كثرت فيه الفتن وأصبحت كالأمواج المتلاطمة والمتتالية، أن نحفظ الشباب من الفتن! ومن أعظم الفتن التي يواجهها جيل الشباب في هذا الزمان فتنة النساء،
ومصداق ذلك ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ما تركت في
الناس بعدي فتنة أضر من النساء". قال ابن حجر: ويشهد له قول الله تعالى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]. فجعلهن من
حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع؛ وذلك لعظيم خطرهن، وقال صلى الله
عليه وسلم: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في
النساء".
والزواج
لا شك أنه من أسباب الغنى وسد الفقر، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
[النور: 32]. وفيه حفظ النسل، وتصان الفروج، وتحفظ الأعراض، ويحصل الإحصان، ويأمن المجتمع.
قال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (9).
قال
ابن عاشور رحمه الله: "وعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرًا أن يغنيه
الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرًّا، وتوسعة المال على مولاه إن
كان عبدًا" (10).
وقال ابن كثير
رحمه الله: "وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم
يجد إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة،
وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن". وقال
السعدي رحمه الله: "فلا يمنعكم ما تتوهمون من أنه إذا تزوج افتقر بسبب
كثرة العائلة ونحوه، وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر"
(11) .
ويؤيد
ذلك: ما رواه الترمذي عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ
عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي
يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ"(12) . ولله
الحمد في زماننا ظهرت العديد من المؤسسات الخيرية، والمشاريع التي أنشئت
لهدف تيسير سبل الزواج، حيث تقدم تسهيلات متنوعة وقروض حسنة لحل مشكلة
العنوسة والعزوف عن الزواج، وتسهيل العقبات على المقبلين على الزواج،
وتنظيم الأعراس الجماعية، وتقديم المساعدات للمقبلين على الزواج بإهدائهم
جزءًا من فرش البيت كغرفة النوم أو الجلوس، وإعانتهم على تحمل تبعات
الزواج، بل وبعضها كان من أهدافها توعية الشباب بأهمية الزواج والفقه في
أموره وترشيد نفقاته.
وقد
أفتى أهل العلم بجواز إخراج الزكاة كمساعدة لمن أراد الزواج وهو عاجز عن
تكاليفه، وذكروا أن مِن تمام الكفاية التي يُشرَع إعطاءُ الفقير من الزكاة
ليصل إليها ما يأخذه ليتزوج به إذا لم تكن له زوجة، كما ورد في الأثر عن
عمر بن عبد العزيز أنه أمر من ينادي في الناس: "أين المساكينُ؟ أين الغارمونَ؟ أين الناكحونَ؟"، أي: الذين يريدون الزواج؛ وذلك ليعطيهم من بيت مال المسلمين.
ونحن
كذلك بحاجة إلى توفير أوقاف استثمارية تدرُّ ريعًا على تلك المؤسسات لتقوم
بدورها، وتحقق أهدافها في تسهيل سبل الزواج؛ خدمةً للمجتمع وأفراده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
3
ـ الدارس في تاريخ المدارس 2/126 لعبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي،
تحقيق جعفر الحسني، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، مطبعة الترقي دمشق
1367هـ. 4
ـ محمد المنوني؛ (مجلة دعوة الحق، العدد الرابع، السنة 21، 1983م)، نقلاً
عن "الملاجئ الخيرية الإسلامية" المجلة الزيتونية ج6 مج 3 ص278. 5 ـ محمد المنوني؛ (مجلة دعوة الحق، العدد الرابع، السنة 21، 1983م)، المصدر السابق ص277.6 ـ
محمد المنوني؛ (مجلة دعوة الحق، العدد الرابع، السنة 21، 1983م)، نقلاً
عن "بغية الأنفاس بمحاسن فاس" ماهرة للشيخ علي بن محمد الطيب الشرفي"
مخطوطة.خ.ع.ح 119. 7 ـ "المجلة الزيتونية" ج6 مج 3 ص278. 8ـ رحلة ابن جبير ص245، دار صادر - بيروت، 1400هـ- 1980م. 9 ـ "تفسير الطبري" 19/166. 10 ـ "التحرير والتنوير" ص2901. 11 ـ "تفسير السعدي" ص567. 12 ـ رواه الترمذي (1655)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.